العناد مرض وراثي

العناد هو احدى صفات سن الشباب، كونهم القوة الفاعلة التي سرعان ما تنفذ عندما تقرر، ويتخذونه كوسيلة لإثبات الذات وفرض الشخصية والرغبة في النزوع نحو الاستقلال عن سلطة الاهل، ومن اللافت للنظر وجوده لدى الفتيات اكثر منه لدى الشبان، هذا ما دلت عليه الدراسات السيكولوجية: “بأن الفتاة اكثر عناداً من الرجل حيث يعتمد العناد لدى الفتاة في قوته وإصراره على الدلال والانوثة” وهو رد فعل طبيعي لدى الفتاة لشعورها بالضعف وقلة الحيلة ورفض السلطوية فتتخذه وسيلة ضغط لتحقيق رغباتها المستلبة. لكن اعتماد العناد كوسيلة للاستقلالية وإثبات الذات بعيد تماما في واقع الامر عن الشخصية القوية المستقلة كونها تمتاز بالليونة وتتعامل بعقلانية وواقعية بعيداً عن الحالات الانفعالية والثائرة التي غالبا ما تتخذ قرارات تعسفية. فإلى اي حد يتبنى الجيل الشاب هذه الظاهرة في سلوكه وكيف ينظر إليها؟ هذا ما سنعرفه في تحقيقنا التالي:

(آدو - 22 عاماً - جامعي) يحمل الاهل مسؤولية ما يصدر عنه من سلوك عنادي، ويقول: والداي غالبا ما ينعتني بالعنيد “صاحب الرأس اليابس” الذي لا يقنع سوى برأيه، ولكنني أجد هذه الصفة بعيدة تماما عن شخصيتي المستقلة التي تأخذ فقط بالذي يقنعها ويناسب تطلعاتها، وقد أكون عنيداً بالفعل في المواقف الانفعالية عندما يحاول الآخرون استفزازي والتدخل في حياتي الخاصة وفرض آرائهم عليّ عنوة، مما يزيد من حدة إصراري على موقفي حتى لو كنت اعلم بقرارة نفسي انني على خطأ، وعنادي هنا نابع من رفضي للأسلوب الذي يتعامل معي به الاهل المتمثل في السلطوية والتحكم بأولادهم دون ان يأخذوا بعين الاعتبار ما يرغب به الابناء مما يزيد من حدة الصراع ويدفع الابناء لاتخاذ القرارات الخاطئة.. في حين لو كان الطرح الذي يرغب به الاهل يعتمد على الحوار والإقناع فمن المؤكد أننا سنلين ونتراجع عن المواقف التي اقنعنا بها الاهل منطقياً بأنها خاطئة.

أما (رجاء خليل 25 عاما) فنجد العناد مفيداً في بعض المواقف: العناد هو سلاح ذو حدين، فهو ضروري وايجابي عندما تتمسك به الفتاة للدفاع عن حقوقها وإثبات صحة رأيها وفرض شخصيتها في التعامل مع الآخرين، وهو سلبي من ناحية ثانية عندما يكون اعمى لا نميز به الخطأ من الصواب، ويكون في هذه الحالة نتيجة لتربية خاطئة تلقاها الفرد منذ الطفولة في تحقيق كل ما يرغب به من قبل الاهل، فمن الضروري ان نعتدل في عنادنا حتى لا يصبح الصفة الاكثر ظهوراً في تعاملنا، الامر الذي ينفر الغير منا، وانا فتاة طبيعية أتميز بالعناد في المواقف التي تتطلب مني الإصرار وعدم التراجع عن مواقفي، وأتميز ايضا باللين والتسامح في حالات اخرى.

(مي مظلوم - 24 عاماً) ذكرت مجموعة من الاسباب التي تخلق حالات العناد لدى الفتاة تحديداً فقالت: ان العناد صفة طبيعية تلازم الفتاة بسبب التمييز القائم بين الرجل والمرأة والذي ينسب من خلاله للرجل حقوق القوة والوصاية وبالمقابل ينسب للمرأة الضعف والطاعة، فيكون العناد هنا رد فعل طبيعياً تسلكه الفتاة لتثبت ذاتها وقدراتها امام الرجل وبأنه ليس افضل منها بشيء وهي قادرة على ان تضاهيه وتتفوق عليه، ويكون العناد احيانا انعكاسا لشخصية مريضة، فالفتاة المغرورة مثلا والتي تتمتع بقدر كبير من الجمال والأنوثة والدلال والتي تلقت في تربيتها الإفراط في الدلال وتلبية كل ما تريده فإن غرورها بجمالها ودلالها يدفعها الى العناد والإصرار على تحقيق كل ما تريده من دون النظر الى العواقب، وهناك نوع آخر من العناد يعكس غباء الشخصية التي تتحاور مع الآخرين بشكل عقيم لتؤكد فيه صحة رأيها دون قبول اي اعتراض أو تعليق عليه، فمن الضروري ان تميز الفتاة حقيقة المواقف في صحتها وخطئها ويكون لديها القدرة للسيطرة على العناد وتوظيفه في المواقف التي يحتاجها.

(غفران الفوراني - 20 عاماً - معهد صحي) تجد ان العناد يختلف في درجاته من فرد الى آخر، وترى ان العناد صفة أنثوية تخصنا نحن الفتيات الشرقيات لما نحاط به من قيود خطوط حمراء وجملة من الأعراف والمفاهيم التي تفرض علينا طاعتها سواء قبلنا بها أم أبينا، فيأتي العناد سنداً لما تكابده الفتاة من إحساس بالضعف والرغبة في التحرر وإثبات الذات والقدرة على الاختيار..، بينما لا يضطر الشاب كثيراً لتبني هذه الصفة كونه يتمتع بقدر وافر من الحرية والقدرة على الاختيار وتقرير مصير حياته، ويختلف العناد في حدته من فرد لآخر باختلاف الوعي والرؤى واختلاف الانماط التربوية التي تلقاها كل فرد، وللعصبية والمزاجية دورها في حدة العناد واعتقد ان الحوار والتفاهم من قبل الاهل مع أبنائهم دوره ايضا في تقليله والحد منه.

وبالنسبة لي يظهر لدي العناد بصورة واضحة في حالات الشجار والتحدي مع الآخرين التي احاول بها إثبات صحة رأيي بكافة المبررات والطرق، لكنني عندما أهدأ واختلي بنفسي أفكر فيما اذا كان عنادي وإصراري صحيحاً أم خاطئاً، وعندما أجده خاطئاً أتراجع عن موقفي وأهزأ منه. بينما ينسب (مروان العائدي - 24 عاماً - موظف) هذه الصفة للآباء اكثر مما هي موجودة لدى الابناء، فيقول: غالباً ما تنسب صفة العناد الى الفئة الشابة وتنفى عن الفئة المعمرة، والحقيقة ان الكبار لديهم عناد قد تعجز كافة الأدلة المنطقية والعلمية على الحد منه، بينما نجد الجيل الشاب يمتاز بالليونة وسرعة التفاعل والاندماج، فمثلاً والدي يعتبرنا نحن اولاده لا نفهم من الدنيا شيئاً وبأنه هو دوما على صواب، بل هو الموسوعة الغنية بكل المعارف والتجارب، ومحاورته ومناقشته في امر ما يعني علو صوته والدخول في معركة تنتهي بغضبه وسخطه علينا.. مما يفرض علينا مسايرته وتجنب اي نقاش معه وتنفيذ رغباته، اي نحن الابناء نعتمد المرونة واللين معه، ويعتمد هو التزمت والعناد في آرائه مع عدم السماح بأي نقاش أو اعتراض.

(رباب محمد - 25 عاما - صيدلانية) تؤيد عناد الفتاة في تعاملها مع الرجل وترى ان إصرار الفتاة على رأيها وتمسكها بمواقفها ليس عناداً، بل هو جزء من تكوين شخصيتها في نزوعها الى الاستقلال، واستطاعت الفتاة بعنادها وإصرارها ان تفرض على المجتمع حقوقها الشرعية التي سلبها إياها الجهل والتخلف، وانا اؤيد عناد الفتاة وقوتها في التعامل مع الرجل الذي يسعى دوما لإبقائها تحت سيطرته وتبعيته، فيكون العناد هنا سلاحها أمام ديكتاتورية الرجل ونظرته الفوقية وانه الأقوى والاكثر حكمة ودراية في الحياة منها ويحق له ان يحكمها ويضعها تحت جناحيه.

رأي علم الاجتماع: ويرى علماء الاجتماع ان العناد هو نتاج خلل ما في البناء الاجتماعي وليس موجوداً مصادفة، ودرجات العناد تختلف من فرد الى آخر لأن هنالك فئة من الشباب لديها استعداد وراثي لأعصاب ثائرة، وهناك اسباب مرضية نفسية معينة تؤثر في زيادة العناد عندهم ويكون العناد في اعلى درجاته في الصغر عنه في الكبر وكذلك في فترة المراهقة وهي الفترة التي تتفجر فيها الفتاة بالأنوثة والدلال، وينزع الفتى بدوره لإثبات رجولته في المجتمع.

والعناد صفة سلبية لأن هذه السمة تنزع أحياناً الى مخالفة الآخر من اجل المخالفة أو تمسك الفرد بما لديه من آراء وافكار رغم معرفته بخطئها ومجانبتها للصواب مسبقاً، فالشخص العنيد هو من يعرف الحقيقة والصواب ويخالفهما.

وترتبط سمة العناد بالأنانية وبعدد من الانفعالات السلبية كالغضب والقلق والكآبة وبسوء التوافق عامة، اذ يظهر الشخص العنيد اكثر قلقاً وغضباً من امثاله الذين لا يتسمون بهذه السمة، كما يكون على الاغلب اقل توافقاً في جميع جوانب حياته.

ومن أهم ما يتصف به الشخص العنيد أحادية الرؤية واستبعاده للشخص الآخر ولأفكاره ورفضه الاستماع اليه ومنطقه الظاهري في ذلك على انه على صواب والآخر على خطأ، في حين ان منطقه الباطني يؤكد العكس، فالعنيد شخص أحادي الرؤية يرى الامور من منظاره الضيق فقط من دون الاعتراف بالآخر وبما يطرحه من آراء.

ويكتسب الفرد صفة العناد منذ الصغر وتعزز لديه من خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تلعب دوراً مهما في صقل الشخصيات، وهي صفة سلبية وليست ايجابية اذ ان بعض الآباء والامهات يتصورون واهمين ان العناد صفة ايجابية تعبر عن قوة الشخصية واستقلاليتها وعن تأكيد طفلهم لذاته وحرصه على كرامته، رغم انها في الحقيقة تعبر عن رعونة في السلوك وجمود في التفكير وتصلب في الآراء، ويكتشف الآباء والامهات صحة ذلك في المراحل التالية لنمو طفلهما حينما يرفض الاستماع الى توجيهاتهما ويرفض الأخذ بآرائهما ويعمل على تنفيذ ما يريده هو حتى لو كان ما يريده غير سليم ولا يتماشى مع المنطق والمعقول.

وتصبح هذه الظاهرة العنادية صعبة الحل مع الزمن ما لم تعالج في بدء التكوين، لكنها غير مستحيلة عن طريق تخصيص حصص وبرامج اجتماعية في الاذاعة والتلفزيون، وحتى في الجرائد يشرف على بثها مختصون بمعالجة القضايا الاجتماعية التي يتطلب علاجها اولاً: معرفة الاسباب التي أدت الى تكوين هذه العقدة ثم البحث في الحلول وبالتالي طرق العلاج المناسبة.